فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الشاعر:
لا تمدحَنَّ امرًا حتّى تُجرّبه ** ولا تذمَّنَّه من قبل تجريب

إن الرجال صناديقُ مقفَّلة ** وما مفاتيحها غَير التجاريب

ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعلمه، وذلك كفر لا محالة، وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حَقّ خلافًا للخوارج وكذلك المعتزلة.
{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)} أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذٍ كان بواسطة ملَك من الملائكة لأن إبليس لما استكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد بعد أهلًا لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم {وما كان لبشر أن يكلمه اللَّه إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51]، وبذلك تكون المحاورة المحكية هنا بواسطة ملَك فيكون الاختصام بينه وبين الملائكة على جعل ضمير {يختَصِمُونَ} [ص: 69] عائدًا إلى الملأ الأعلى كما تقدم.
وجيء بفعل {قال} غير معطوف حسب طريقة المقاولات.
وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الحجر إلا قوله هنا {ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ} أي ما منعك من السجود، ووقع في [سورة الأعراف: 12] {أن لا تسجد} على أن لا زائدة.
وحُكي هنا أن الله قال له: {لِمَا خلقْتُ بِيدي} أي خلقته بقدرتي، أي خلقًا خاصًّا دفعة ومباشرة لأمر التكوين، فكان تعلق هذا التكوين تعلقًا أقربَ من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتَّبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها.
ولا شكّ في أن خلق آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب.
فاليدان تمثيل لتكوّن آدم من مُجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخَّاري للإِناء من طين إذ يسوّيه بيديه.
وكان السلف يُقِرّون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله، أو أن تحمل العقول القاصرة صفاتتِ الله على ما تعارفته {ولتصنع على عيني} [طه: 39] وقال مرة {فإنك بأعيننا} [الطور: 48].
وقد تقدم القول في الآيات المشاهبة في أول سورة آل عمران.
وفي إلقاء هذا السؤال إلى إبليس قطع بمعذرته.
والمعنى: أمن أجل أنك تتعاظم بغير حق أم لأنك من أصحاب العلو، والمراد بالعلو الشرف، أي من العالين على آدم فلا يستحق أن تعظمه فأجاب إبليس مما يشق الثاني.
فتبين أنه يعدّ نفسه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، يعني والنار أفضل من الطين، أي في رأيه.
وعبر عن آدم باسم ما الموصولة وهو حينئذٍ إنسان لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد خلقه وتعليمه الأسماء كما في سورة البقرة.
ويؤيد قول أهل التحقيق أن ما لا تختص بغير العاقل وشواهده كثيرة في القرآن وغيره من كلام العرب.
وقال: {أنَا خيرٌ منه} قولٌ من الشيطان حكي على طريقة المحاورات.
وجملة {خلقتني من نارٍ وخلقته من طِينٍ} بيان لجملة {أنا خيرٌ منه}.
وقد جعل إبليس عذره مبْنيًا على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعى باطلًا وعصى ربّه استكبارًا: وطَرْدُه أجمع لإِبطال علمه ودحض دليله، غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملْتهبة التي تسمّى نارًا، وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تَعْدُ أن يكون كيانها مخلوطًا بما يُلهبها.
ومعنى كون الشيطان مخلوقًا من النار أَنَّ ابتداء تكوّن الذَّرة الأصلية لقوام ماهيته من عنصر النار، ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به.
ومعنى كون آدم مخلوقًا من الطين أن ابتداء تكوّن ذَرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ماهية الإِنسان.
وتكون {من} في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية.
وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ويعبر عنه بالأرض لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون.
وقال الشيرازي في شرح كليات القانون: إن النار وإن ترَجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات، وغيرُ مفسدة ببردها، بخلاف النار فإنها مفسدة بحرّها لكونه في الغاية إلى غير ذلك.
والحق: أن أفضليّة العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأَة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر، والأجسامُ الإِنسانية مركبة من العناصر كلّها.
والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوَّق بها الإِنسان على جميع المركبات بأن كان فيه جزء ملَكي شارك به الملائكة، ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدّس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملًا في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا: إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تمحض النورانية وتميُّز فريق الأنبياء بأنهم لَحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة، فليس لإِبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأِ الأعلى.
وإنما بسطنا القول هنا لردّ شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعنًا في الدين لا إيمانًا بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مُقتضيًا أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجزاء متفاوتة والتركيب قد يُدخل على المادة الأولى شرفًا وقد يدخل عليها حَقارة، والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار.
{قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} عاقبه الله على ما برز من نفسانيته فخالف ما كان من طريقته فأطرده من الملأ الأعلى ومن الجنة، وضمير {قَالَ} عائد إلى الله تعالى على طريقة حكاية المقاولات.
وفُرّع أمره بالخروج من الجنة بالفاء على ما تقدمه من السؤال والجواب لأن جوابه دل على كون خبث في نفسه بدت آثاره في عمله فلم يصلح لمخالطة أهل الملأ الأعلى.
وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحجر.
واللعنة: الإِبعاد من رحمة الله، وأضيف إلى الله لتشنيع متعلقها وهو الملعون لأن الملعون من جانب الله هو أشنع ملعون.
وجعل {يَوْممِ الدِينِ} غاية اللعنة للدلالة على دوامها مدةَ هذه الحياة كلها ليستغرق الأزمنة كلها، وليس المراد حصول ضد اللعنة له يوم الدين أعني الرحمة لأن يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال فجزاء الملعون العذاب الأليم كما أنبأ بذلك التعبير ب {يَوْممِ الدينِ} دون: {يوم يبعثون} [ص: 79]، أو {يوم الوقت المعلوم} [ص: 81].
{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)} أي قال إبليس.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحجر وتفسيرها هناك مستوفى.
{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} الفاء لتفريع كلامه على أمر الله إياه بالخروج من الجنة وعقابه إياه باللعنة الدائمة وهذا التفريع من تركيب كلام متكلم على كلام متكلم آخر.
وهو الملقب بعطف التلقين في قوله تعالى: {قال ومن ذريتي} في سورة [البقرة: 124].
أقسم الشيطان بعزة الله تحقيقًا لقيامه بالإِغواء دون تخلف، وإنما أقسم على ذلك وهو يعلم عظمة هذا القَسَم لأنه وجد في نفسه أن الله أقدره على القيام بالإِغواء والوسوسة وقد قال في سورة [الحجر: 39]: {رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} والعزة: القهر والسلطان، وعزة الله هي العزة الكاملة التي لا تختل حقيقتها ولا يتخلف سلطانها، وقَسَم إبليس بها ناشىء عن علمه بأنه لا يستطيع الإِغواء إلا لأن الله أقدره ولولا ذلك لم يستطع نقض قدرة الله تعالى.
وتقدم تفسير نظير: {ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين في سورة} [الحجر: 40]. اهـ.
فائدة:

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {خلقت بيدى} لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع مفردا ومثنى ومجموعا فالمفرد كقوله بيده الملك الملك، والمثنى كقوله {خلقت بيدي} ص75، والمجموع كقوله {عملت أيدينا} يس71 فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليهما فقال {خلقت بيدي} ص75 وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل {خلقت بيدي} ص75 من المجاز ما يحتمله عملت أيدينا فإن كل أحد يفهم من قوله عملت أيدينا ما يفهمه من قوله عملنا وخلقنا كما يفهم ذلك من قوله فبما كسبت أيديكم الشورى.
وأما قوله {خلقت بيدي} ص75 فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف وقد دخلت عليها الباء فكيف إذا ثنيت وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله: {بما قدمت يداك} الحج 10 {فبما كسبت أيديكم} الشورى 3.
وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى يده مفردة أو مثناة فهو ما باشرته يده ولهذا قال عبد الله بن عمرو إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا خلق آدم بيده وغرس جنة الفردوس بيده وذكر الثالثة فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة وقد أخبر النبي «أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك فذكروا أربعة أشياء كلها خصائص وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده» وفي لفظ آخر كتب لك التوراة بيده وهو من أصح الأحاديث وكذلك الحديث الآخر المشهور «أن الملائكة قالوا يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله تعالى لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» وهذا التخصيص إنما فهم من قوله {خلقت بيدي} ص 75 فلو كانت مثل قوله {مما عملت أيدينا} لكان هو والأنعام في ذلك سواء فلما فهم المسلمون أن قوله {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} موجبا له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه كانت التسوية بينه وبين قوله {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما} يس 71. خطأ محضا. اهـ.

.تفسير الآيات (84- 88):

قوله تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما حصل التشوف إلى جوابه، دل عليه بقوله: {قال فالحق} أي فبسبب إغوائك وغوايتهم أقول الحق {والحق} أي لا غيره أبدًا {أقول} أي لا أقول إلا الحق، فإن كل شيء قلته ثبت، فلم يقدر أحد على نقضه ولا نقصه.
ولما كانت إجابته بالإنظار ربما كانت سببًا لطمعه في الخلاص، قطع رجاءه بما أبرزه في أسلوب التأكيد من قوله جوابًا لقسم مقدر وبيانًا للحق، وفي قراءة عاصم وحمزة برفع {فالحق} يكون هو المقسم به أي فالحق قسمي، والجواب {لأملأن} وما بينهما اعتراض مبين أن هذا مما لا يخلف اصلًا {جهنم} أي النار العظيمة التي من شأنها تجهم من حكم بدخوله إياها {منك} أي نفسك وكل من كان على شاكلتك من جنسك من جميع الجن {وممن}.
ولما كان الأغلب على سياقات هذه السورة سلامة العاقبة، كان توحيد الضمير في {تبع} أولى، وليفهم الحكم على كل فرد ثم الحكم على المجموع فقال: {تبعك} ولما كان ربما قال متعنت: إن المالىء لجهنم من غير البشر قال: {منهم} أي الناس الذين طلبت الإمهال لأجلهم، وأكد ضمير {منك} والموصول في {ممن} بقوله: {أجمعين} لا تفاوت في ذلك بين أحد منكم، وهذا الخصام الذي بين سبحانه أنه كان بين الملأ الأعلى كان سببًا لهم إلى انكشاف علوم كثيرة منها أن السجود والتحيات والاستغفار والكفارات سبب الوصول إلى الله والقربات، فصاروا بعد ذلك يختصمون فيها، فكانت هذه القضية سببًا لاطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرار الملك والملكوت، وإلى ذلك الإشارة بالحديث الذي رواه أحمد والترمذي- وقال: حسن غريب- والدارمي والبغوي في تفسير عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني نعست فاستثقلت نومًا فأتاني ربي»- وفي رواية؛ «آتٍ من ربي- في أحسن صورة، فقال لي يا محمد، قلت: لبيك ربي وسعديك، قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، فقلت لا يا رب» وفي رواية: «قلت: أنت أعلم أي رب مرتين قال: فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي- أو قال: نحري- فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» وفي رواية: «ما بين المشرق والمغرب» وفي رواية الدارمي والبغوي: «ثم تلا هذه الآية {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت: نعم، في الدرجات والكفارات، قال: وما هن؟ قلت: المكث في المساجد بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره» وفي رواية: «في السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال: من فعل ذك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، قال: إذا صليت فقل: اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون» قال: «والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام»، قال المنذري: الملأ الأعلى: الملائكة المقربون، والسبرات- بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة: جمع سبرة، وهي شدة البرد، وعزاه شيخنا في تخريج أحاديث الفردوس إلى أحمد والترمذي عن معاذ رضى الله عنهأيضا وقال: وفي الباب عن ثوبان رضى الله عنه عند أحمد بن منيع وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وأبي رافع وأبي أمامة وأبي عبيدة وأسامة وجابر بن سمرة وجبير بن مطعم وأسامة بن عمير وأنس رضى الله عنهم عند أحمد، فهذا اختصام سبب العلم بتفاصيله الاختصام الأول وهو ما في شأن آدم عليه السلام وذريته، والعلم الموهوب لمحمد- صلى الله عليه وسلم- بسبب السؤال عن هذا الاختصام كالعلم الموهوب لأبيه آدم عليه عليه السلام بسبب ذلك الاختصام، وهذا الاختصام- والله أعلم- هو اختلافهم في مقادير جزاء العاملين من الثواب المشار إليه بالدرجات الحامل عليها العقل الداعي إلى أحسن تقويم، والعقاب المشار إليه بالكفارات الداعي إلى أسبابها الوساوس الشيطانية الرادة إلى أسفل سافلين التي سأل إبليس الإنظار لأجلها، وسبب اختلافهم في مقادير الجزاء اختلاف مقادير الأعمال الباطنة من صحة النيات وقوة العزائم وشدة المجاهدات ولينها على حسب دواعي الحظوظ والشهوات التي كان سبب علمهم بهذا الاختصام في أمر آدم عليه السلام وما نشأ عنه تفصيله بأمور دقيقة المأخذ المظهرة لأن الفضل ليس بالأمور الظاهرة وإنما هو بما يهبه الله من الأمور الباطنة وسمي تقاولهم في ذلك اختصامًا دلالة على عظمة ما تقاولوا فيه، لأن الخصومة لا تكون إلا بسبب أمر نفيس، فالمعنى أن الملائكة كل واحد منهم مشغول بما أقيم فيه من الخدمة، فليس بينهم تقاول يكون بغاية الجد والرغبة كما هو شأن الخصام إلا في هذا لشدة عجبهم منه لما يعملون من صعوبة هذه الأمور على الآدمي لما عنده من الشواغل والصوارف عنها بما وهبهم الله من العلم جزاء لانقيادهم للطاعة بالسجود بعد ذلك الخصام فنزوع الآدمي عن صوارفه وحظوظه إلى ما للملائكة من الصفوف في الطاعة والإعراض أصلًا عن المعصية غاية في العجب، وعلمه صلى الله عليه وسلم لما في السماوات وما في الأرض علم عام لما كان في حين الرؤيا ظهر له به ملكوتهما، ونسبة ذلك كله إلى علم الله تعالى كالنسبة التي ذكرها الخضر لموسى عليهما السلام في نفرة العصفور من البحر، والذي ذكره العلماء في ذلك أنه تقريب للإفهام فإنه لا نسبة في الحقيقة لعلم أحد من علمه تعالى ولا بنقص علمه أصلًا سبحانه عما يلم بنقص أو يدني إلى وهن {قل لو كان البحر مدادًا} [الكهف: 109] {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام} [لقمان: 27] {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا} [المائدة: 109] ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم في ناس اختلجوا دونه عن حوضه «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ فيقول: فسحقًا سحقًا».